الفصاحة وحسن المنطق وحلاوة اللسان، تجمّل الإنسان وتزينه
، وفي سؤال موسى عليه السلام ربه أن يكون أخوه هارون معه ما يدل على هذا المعنى ، وانه قد استوحش من عدم الفصاحة ﴿ وَأَخِي هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ٣٤﴾ (القصص).
وقد افتخر فرعون على موسى عليه السلام ببيانه وفصاحته ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ 52 ﴾ (الزخرف).
قال يحيى بن خالد: ما رأيت رجلاً قط إلا هِبْته حتى يتكلم، فإن كان فصيحاً عظم في صدري وإن كان قصّر سقط من عيني!
لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤادهُ ولم يبق إلاّ صورةُ اللحمِ والدمِ
وكما يقولون: عقل الرجل مدفون تحت لسانه .
وحينما تكثر سقطات الرجل في كلامه وتتوالى عثرات لسانه ويتكرر لحنه، تتمنى سكوته وأن ينهي حديثه، لأن السمع قد مجّ كلامه ولم يعد يتحمل أكثر من ذلك، وعلى العكس من هذا فمن استقام لسانه وعذب منطقه تتمنى المزيد من حديثه وتود لو أنه تابع كلامه بلا انقطاع، وتشعر أن حديثه أحلى من العسل، وألذ وأشهى من الحلوى.
قال الشعبي: كنت أحدث عبدالملك بن مروان، وهو يأكل فيحبس اللقمة، فأقول: أجزْها -أسِغْها- أصلحك الله، فإن الحديث من وراء ذلك، فيقول: والله لحديثك أحب إلي منها.
قال بعضهم: ما رأيت زياداً كاسراً إحدى عينيه واضعاً إحدى رجليه على الأخرى يُخاطب رجلاً إلا رحمت المخاطب! وقال آخر: ما رأيت أحداً يتكلم فيُحْسن إلا أحبْبَتُ أن يَصْمُتَ خوفاً من أنْ يسيء إلا زياداً فإنه كلما زاد، زاد حُسناً! وتكلم عمرو بن سعيد الأشدق، فقال عبدالملك: لقد رَجَوْتُ عَثْرته لما تكلم، فلقد أحسن حتى خَشِيت عَثْرته إن سكت.
قال أبو العير: قال لي أبو العباس أحمد يحيى -المشهور بثعلب من أئمة النحو- الظبي معرفة أو نكرة، فقلت: إن كان مشوياً على المائدة.. فمعرفة.. ! وإن كان في الصحراء فهو نكرة..! فقال ثعلب: ما في الدنيا أعرف منك بالنحو!!
قيل إن أبا بكر رضي الله عنه رأى رجلاً بيده ثوب فقال له: هو للبيع؟ فقال الرجل لا أصلحك الله . فقال الصديق لو تستقيمون لقومت ألسنتكم، هلا قلت: لا، وأصلحك الله، لئلا يشتبه الدعاء إليَّ بالدعاء عليّ!
وكان عمر بن الخطاب إذا رأى رجلاً يُلجلج في كلامه قال: خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد!
وقد يحدث أن يتفاصح إنسان ويتظاهر بقوة النطق وعذوبة اللفظ وجمال الأسلوب وروعة البلاغة، لكنه ينقص أشياء في حديثه، قد لا يشعر بها أو لا يعرضها، فيذهب جمال الكلام وطلاوة الحديث.
وتكلم رجل عند معاوية فَهَذَر، فلما أطال قال: أأسكتُ يا أمير المؤمنين، قال: وهل تكلمت! وتكلم ابن السَمّاك يوماً وجارية له تسمع كلامه، فلما دخل قال لها: كيف سمعت كلامي؟ قالت: ما أحسنه لولا أنك تردّده، قال: أردده ليفهمه من لم يفهمه، قالت إلى أن يفهمه من لم يفهمه، يملّه من فَهِمه!
وتكلم ربيعةُ الرأي يوماً فأكثر الكلام, فأعجبته نفسه, وإلى جنبه أعرابي, فقال له: يا أعرابي, ما تعدّون البلاغة؟ فقال: قلّة الكلام, قال: ما تعدون العيّ فيكم؟ قال: ما كنت فيه منذ اليوم! وقيل لرجل يعيد كلاماً لغبي: قد ثقل كلامك على الذكي قبل حصوله في قلب الغبي!
خطب رجل خطبة نكاح، فأخذ يطيل، فقام بعض الحاضرين فقال: إذا فرغ الخطيب فبارك الله لكم ، فإني على شغل !
وتكلم رجل فأحسن، ثم أعاد فأساء، فقال له أعرابي: إنك تَسْترجع محاسنك!
كان غلام يُقَعّرُ في كلامه فأتى أبا الأسود الدؤلي يتلمس ما عنده، فقال له أبو الأسود: ما حال ابنك؟ قال: أخذته الحُمّى فَطَبختْه طبخاً وفَضَخَتْه – دقته– فضْخاً، وفَنَخَتْه – أوهنته وأضعفته – فَنْخا فتركته فَرْخاً – الفرخ: الضعيف المنهوك – قال أبو الأسود: فما فعلت امرأته التي كانت تُجَارّه وتُشارّه ، وتزارّه وتُهارّه – (تجاره: تطاوله وتشاره: تخاصمه. وتزاره: تعضه، وتهارّه: تهر في وجهه كما يهرّ الكلب) – قال: طلقها فتزوجت غيره، فرضيت وحَظيِت وبَظَيتْ. قال أبو الأسود: قد عرفنا حظيت، فما بَظَيتْ؟ (أتى بلفظ بظيت إتباعاً لحظيت، مثل حَسَن بَسَن، وأهَلّ وسَهّل إلخ...) قال: حرف من الغريب لم يبلغك! قال أبو الأسود: يا بن أخي، كل حرف من الغريب لم يبلغ عمّك فاستُره كما تسْتُر السِّنَّوْرُ خُرْأها. ومثل هذا الأسلوب مستهجن، ولا يُرضي السامع، ومن الأفضل الابتعاد عن الألفاظ الغريبة والكلمات التي تثقل على السمع ويتشدق بها صاحبها.
موسى الأسود